الرأي العام الفلسطيني- دعم متزايد للمقاومة رغم التضحيات والمعاناة

تؤكد الوقائع أن الرأي العام الفلسطيني يتمتع بوعي عميق وإدراك شامل للأحداث، بالإضافة إلى صموده الراسخ. على الرغم من وطأة المأساة، حافظ على مواقفه الثابتة المتمسكة بحقوقه، واستمر في دعمه اللامحدود للمقاومة، مما أثار دهشة العالم أجمع. هذا الرأي العام الفلسطيني أثبت صحة توجهاته، وتجاوز التوقعات في كثير من الأحيان.
يرى العديد من المراقبين أن المقاومة الفلسطينية لم تشهد عملية أعظم من معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. كما أن دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تواجه تهديدًا مماثلًا منذ نشأتها، الأمر الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي، وأجبر المجتمع الدولي على إعادة النظر في أولوياته.
هذا التصور لا يقتصر على قادة المقاومة والمختصين فحسب، بل يعكس أيضًا رؤية الشعب الفلسطيني بأكمله. فبالرغم من جرائم الإبادة الجماعية والتجويع والتهجير القسري، شهدنا دعمًا عفويًا وتلقائيًا للمقاومة من قبل جميع فئات المجتمع، نساءً وشبابًا وشيوخًا، يحملون أشلاء أحبائهم أو يخرجون من تحت الأنقاض. تشير الإحصاءات والدراسات إلى أن غالبية الشعب الفلسطيني تؤمن إيمانًا راسخًا بخيار المقاومة والتحرير، وتثق ثقة مطلقة بالنصر على الاحتلال.
يعبر الرأي العام الفلسطيني عن دعمه القوي للمقاومة في معركة "طوفان الأقصى". فقد أظهر استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في الفترة ما بين 26 مايو/أيار و1 يونيو/حزيران 2024، أن ثلثي الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يؤيدون عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول. كما أن 80% منهم يعتقدون أنها وضعت القضية الفلسطينية في دائرة الضوء العالمي، ويعتقد نصفهم الآخر أن حماس ستنتصر وتعود لحكم غزة بعد انتهاء الحرب.
التضحية والمعاناة
لم يجرِ هذا الاستطلاع في أوقات الرخاء والهدوء، بل خرجت نتائجه من رحم المعاناة والمأساة التي تسبب بها الاحتلال الإسرائيلي الغاشم. 80% من سكان غزة فقدوا عزيزًا أو تعرضوا للإصابة أو الأسر خلال الحرب، بالإضافة إلى فقدانهم لمنازلهم وتعرضهم للتجويع والنزوح المتكرر، مما يعني أن كل بيت في غزة قد تضرر بشكل أو بآخر من العدوان. إن الشعب الفلسطيني في غزة يدفع ثمنًا باهظًا من دمه وممتلكاته مقابل نيل حريته المنشودة. وعلى الرغم من طول أمد الحرب، لم يتراجع التأييد للمقاومة قيد أنملة، بل ازداد إيمان الشعب بخيار المقاومة، وتضاءل الأمل في خيار التسوية السلمية.
على الرغم من أن الاستطلاع أشار إلى تحسن طفيف في توفر الغذاء ليوم أو يومين مقارنة بالاستطلاع السابق، إلا أن الوضع الإنساني ازداد صعوبة وتعقيدًا بعد إغلاق معبر رفح الحدودي، كما أن الاستطلاع لم يشمل منطقة شمال غزة التي تعاني من ظروف أقرب إلى المجاعة. إن الاحتياجات الأساسية، مثل الماء والكهرباء والعناية الطبية، لا يزال الوصول إليها يمثل تحديًا كبيرًا ومحفوفًا بالمخاطر، وهو ما تؤكده التقارير الموثقة الصادرة من غزة.
التأييد لهجوم "طوفان الأقصى"
بعد مرور أكثر من 240 يومًا على العدوان الصهيوني المستمر، لا يزال التأييد لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول مرتفعًا بشكل ملحوظ. يرى الناس أن هذا الهجوم أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي بعد سنوات طويلة من الإهمال والتجاهل الإقليمي والدولي، على الرغم من المحاولات الحثيثة التي تبذلها الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ الاحتلال لطمس القضية وتصفيتها نهائيًا. لقد تكرر سؤال التأييد لعملية 7 أكتوبر/تشرين الأول ثلاث مرات منذ بداية العدوان، ومع ذلك ظل التأييد لها مرتفعًا وثابتًا. أظهرت استطلاعات المركز الفلسطيني في ديسمبر/كانون الأول 2023، ومارس/آذار 2024، ويونيو/حزيران 2024 نسبة تأييد ثابتة عند 70%. وفي الضفة الغربية، بلغ التأييد ذروته عند 82% في ديسمبر/كانون الأول 2023.
يرفض الشعب الفلسطيني أي مساس بعملية 7 أكتوبر/تشرين الأول، ويعتبرها إنجازًا بارزًا في تاريخ القضية الفلسطينية العادلة. يعارض 80% من الفلسطينيين تصريح محمود عباس في مؤتمر القمة العربية بأن "هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وفّر لإسرائيل المزيد من الذرائع لكي تهاجم قطاع غزة"، وكذلك تصريحه بأن موقف حماس لإنهاء الانقسام وقبول الشرعية الدولية خدم المخطط الإسرائيلي في تكريس فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية. على النقيض من ذلك، لا يرى الناس في عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول حدثًا صائبًا فحسب، بل يعتبرونه حدثًا استثنائيًا وإستراتيجيًا وخطوة ضرورية نحو التحرير.
شمل الاستطلاع 75 تجمعًا سكانيًا في رفح وخان يونس والمواصي ودير البلح. ولم يشمل سكان شمال غزة الذين بقوا صامدين في بيوتهم، ولكن المقابلات العديدة التي أجريت مع سكان هناك تدفعنا إلى توقع أن أولئك الذين بقوا هناك متحدين القصف الإسرائيلي هم أكثر دعمًا لخيار المقاومة.
جمهور متابع وواعٍ
على الرغم من المأساة والأهوال التي يعيشونها، يتابع سكان غزة باهتمام بالغ المظاهرات الطلابية في الجامعات الأمريكية، والقضايا والمشاريع الداخلية والخارجية المرتبطة بهم. على سبيل المثال، رأى 78% منهم أن مشروع الرصيف البحري لا يساهم في التخفيف من معاناة السكان، ويدركون تمام الإدراك حقيقة الدور الأمريكي الداعم للاحتلال. وقد أُجري هذا الاستطلاع قبل التسريبات التي تحدثت عن احتمالية استخدام هذا الرصيف البحري في العملية الإسرائيلية لتحرير 4 من أسراها، والتي صاحبتها مجزرة مروعة أودت بحياة أكثر من 200 فلسطيني، ولو تكرر السؤال الآن، لكانت النتائج مختلفة بلا شك.
يعارض 75 % % من الفلسطينيين نشر قوة أمنية عربية، حتى لو كانت مهمتها مساعدة قوات الأمن الفلسطينية، ويفضلون الحلول الفلسطينية الداخلية، وذلك لإدراكهم العميق لتعقيدات التدخلات الخارجية وتداعياتها السلبية المحتملة.
كما لقي موقف حماس تأييدًا واسعًا لمرونته في 5 مايو/أيار بقبولها مقترح الوسطاء ووضع الكرة في ملعب الاحتلال، حيث أيد ذلك 70% من الجمهور، وتوقع 58٪ منهم التوصل إلى اتفاق. وكما نعلم جميعًا، فقد أفشل نتنياهو التوصل إلى ذلك الاتفاق، إلا أن التأييد للمقاومة ظل مرتفعًا وثابتًا. يلوم 64% من الفلسطينيين الاحتلال الإسرائيلي على معاناة سكان القطاع، و22% يلومون الولايات المتحدة، و6% يلومون السلطة الفلسطينية، و8% فقط يلومون حماس.
توقعات صائبة أيضًا
لم يقتصر الأمر على إثبات الرأي العام الفلسطيني لوعيه العميق بالقضايا الراهنة، بل تجاوز ذلك إلى توقعاته الصائبة بخصوص قضايا مستقبلية. توقع ثلاثة أرباع الجمهور فشل محكمة العدل الدولية في وقف الهجوم الإسرائيلي على رفح، وتوقعوا أيضًا أن النازحين لن يتوجهوا إلى الحدود مع مصر.
وفي سياق التوقعات المستقبلية، يرى 67% من الفلسطينيين أن حماس ستخرج منتصرة في هذه الحرب، فيما تصل النسبة في الضفة الغربية إلى 80%. وهكذا يثبت الشعب الفلسطيني أنه مؤمن بمقاومته ومدرك لصلابتها وقدرتها على الصمود أكثر من العديد من الدول والشخصيات التي توقعت أو راهنت منذ بداية المعركة على هزيمة المقاومة.
لدى الفلسطينيين أيضًا توقع بنسبة 63% بسقوط وشيك لحكومة نتنياهو المتطرفة. ويعتقدون أن الحكومة البديلة لن تكون مستعدة للتفاوض على أساس حل الدولتين، وهو ما يجعل هذا الحل غير مفضل لدى الرأي العام الفلسطيني.
وعلى عكس ما تتمناه قوى دولية وإقليمية، فإن 61% من الفلسطينيين يفضلون أن تحكم حماس قطاع غزة، و6% فقط يعتقدون أن السلطة الفلسطينية ستكون المسيطرة في غزة. النسبة في الضفة الغربية أعلى، والتأييد للمقاومة في الضفة مرتفع ويزداد صعودًا، وهو ما يشير بوضوح إلى أن المجتمع الفلسطيني في الضفة يتبنى أيضًا خيار المقاومة، بالرغم من القيود المشددة المفروضة عليه لاحتضان هذه الحالة ودعمها بكل السبل المتاحة.
وفي هذا السياق، وبخصوص صد هجمات المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، رأى 45% من الفلسطينيين وجوب تشكيل مجموعات شعبية لمقاومتهم، وقال 27% بضرورة نشر قوات الشرطة الفلسطينية لحماية المواطنين، واختار 6% تشكيل مجموعات غير مسلحة لصد هجمات المستوطنين.
يضعنا هذا الاستطلاع أمام حقيقة دامغة، وهي أن 54% من الشعب الفلسطيني يفضلون المقاومة كخيار استراتيجي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، مقارنة بـ 25% فقط يؤيدون المفاوضات، و16% يؤيدون نضالًا شعبيًا سلميًا. لقد زاد دعم المقاومة في هذا الاستطلاع بنسبة 8% بشكل عام، وبنسبة 17% في قطاع غزة المحاصر.
إننا أمام شعب يزداد تمسكًا بحقوقه المشروعة والتفافًا حول مقاومته الباسلة بكل أشكالها. وهي في الحقيقة دائرة واحدة متصلة الحلقات، فالمقاومة وضعت خياراتها بناءً على تطلعات الشعب وحقوقه الأصيلة، لذا لا نستغرب إطلاقًا من هذا التلاحم الثنائي الفريد من نوعه.
